كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب الطهارة ويأمر بها، ويكره النجاسة وينهى عنها، ولمَّا مر على صاحبي القبرين، ذكر أن أحدهما كان لا يستبرئ من البول، وأعظم ما كان يقدسه المسلمون ويعظمونه بيوت الله عز وجل على ترتيبها في الفضل، ومسجده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معروفة منزلته في الفضل، ومع هذا يدخل مسجده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك الرجل الأعرابي ويبول في ناحية منه، وهنا تبرز طبيعة التعامل بين الداعية والمدعوين، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعث ميسراً وبُعث معلماً، ولم يبعث منفراً، بل أمر أصحابه بذلك، ويقول: {
يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا} وذلك عندما بعث
معاذاً و
أبا موسى إلى
اليمن.
الرجل فعل هذه الفعلة! وفي هذا المكان الطاهر!! فثار أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه، لماذا؟
ثاروا لله -عز وجل- لأن هذا العمل لا يقره إنسان في هذا المكان، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحسن خلقه وتعامله الكريم، وحلمه وصفحه ينهاهم أن يقطعوه، ويأمرهم أن ينتظروا حتى ينتهي؛ فلما انتهى الرجل، أمرَ بماء فصُب عليه، ثم جاء هذا الرجل وأقبل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى أنه لما صلى قال: {
اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً} سبحان الله! لا يريد أن يرحم الله إلا هو والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنهم ثاروا عليه وهم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهو قليل العلم والإيمان لما يدخل في قلبه، ولكن تأثره بالموقف جعله يدعو لمن أحسن في معاملته، ولمن جعله يقضي حاجته، رغم أنها فعلة شنيعة في ذلك المكان، ولكن نظرته إلى الصحابة الكرام كانت غير ذلك، ولهذا قال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
لقد تحجرت واسعاً} ضيق رحمة الله الواسعة، ولم يقره على ذلك، لكن الغرض قد حصل وهو أن هذا الرجل أقبل إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقر الصحابة على تنفيره أو فعل مثلهم -وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعمل عملاً غير حكيم- لذهب الرجل ولفر الرجل في المسجد ونجس بقعاً كثيرة، ويلقي النجاسة على ثيابه أيضاً، ولا يقبل على الدعوة ولا يصلي، وقد يرتد عن الإسلام بالكلية أي أن هناك مفاسد كبيرة.
هذا القاعدة يجب أن نضعها في أذهاننا: أن نجذب الناس، وأن نحرص على أن نجذبهم إلى الخير، ولا يعني ذلك أن نتغاضى عن الحق، النجاسة لابد أن تزال، ولكن الرجل لا يُجرم ولا يُطْرَد ولا يُنَفَّر، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعطينا نموذجاً في التعامل مع القلوب الحديثة العهد بالإيمان، وما يجب أن يكون عليه الداعية في تعامله معها.
موقف آخر من مواقفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو: موقفه مع
معاوية بن الحكم السلمي والقصة مشهورة، يدخل ولم يعلم أن الله تبارك وتعالى قد أنزل: ((
وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ))[البقرة:238] ويظن أن الكلام في الصلاة مباح يقول: {
بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن} علمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الطريقة، فيقول: ما رأيت قبله ولا بعده معلماً مثله في هذا الرفق وهذا التعليم.